![]() |
غلاف الرواية |
تتعدد محاولات الكتابة الروائية عن الحدث السوري بكل جسامته ومأساويته
التي فاقت أي تصور ممكن، لكن السؤال الذي ظل يتردد هل يمكن لتلك التجارب أن تتمثل
واقع الجريمة الكبرى التي تحدث في ظل حالة الاستقطاب الحادة على الساحة السورية من
جهة، ومن جهة أخرى هل يمكن لهذه الكتابة أن تتحرر من تأثير الانفعالات الآنية
للحدث، وأن تقبض على ما هو إنساني عميق ومعبر عن جانبها الدرامي المريع وسط دوامة
الموت الطاحنة وحالة الاشتباك الحادة وتعقيدات المشهد بمسمياته وعناوينه وتداخلاته.
عبدالله مكسور روائي سوري ممن ارتبطت تجربتهم منذ روايته الأولى عن
ملحمة باب عمرو بهذا الحدث العظيم الذي يعتبر عنوانا كبيرا من عناوين الثورة
السورية وبطولات الرجال المقاومين لآلة الموت والدمار الوحشية لنظام قرر إبادة وطن
مقابل أن تستمر طغمة من المارقين والقتلة في الحكم. في عمله الجديد "عائد إلى
حلب" يواصل الكاتب هذا الخط الروائي الصاعد من خلال كتابة عارية إلا من بلاغة
شرطها المأساوي العنيف وعنف مشهدها الوحشي المنفلت من أي عقال حتى بات من الصعب
تخيله بأي شكل من الأشكال. عائد إلى حلب تكثيف سردي حكائي موجع حتى درجة الهذيان
يعيد طرح الأسئلة الوجودية والإنسانية الأولى حول حقيقة الإنسان وعلاقته بالحياة
ومعنى الشراكة في الوطن والإنسانية وتطور الكائن إلى ما قبل الحيوان، طالما أن
الحيوان لا يهدد حياة الآخرين إلا عندما يكون جائعا.
رائحة الموت
منذ العنوان الرئيس يستدعي الكاتب عنوان غسان كنفاني في روايته
الشهيرة "عائد إلى حيفا" على ما بين الروايتين من تواشج وتراسل دلالي
على مستوى العلاقة مع المكان- الوطن، لكن بطل مكسور الذي يتولى سرد وقائع الرواية
وأحداثها عائد إلى حلب بوصفها بوابة للعبور من أجل هدف آخر، هو توثيق وقائع المجزرة
المروعة التي ارتكبتها قوات النظام وشبيحته بحق السكان المدنيين في منطقة اللطامنة
بريف حماة. بطل الرواية الحقيقي هو الموت الذي لا تعرف من أين يأتيك أو كيف يأتيك
بعدما لم يترك النظام أي وسيلة للقتل لم يستخدمها.
بطل الرواية صحفي سوري عائد من إحدى مدن الخليج للقيام بمهمة صحفية
تتطلب منه الوصول إلى منطقة الجريمة لكي يوثق وقائعها على الأرض، وفي طريقه على
الحدود التركية باتجاه حلب ومنها إلى حماة لتحقيق هذه الغاية- المغامرة الخطرة
يعيش ويلات الحرب وفظاعاتها وأهوالها وتعقيدات مشهدها بسبب الفوضى التي خلفتها وأمراء
وتجار الدم والحرب فيها، واستباحة نظام الإجرام للإنسان والعمران. تلعب جملة
الاستهلال من خلال صيغة السؤال الغريب الذي تطرحه، وتجيب عنه دورا محوريا -من خلال
ما تمثله كعتبة للدخول إلى عالم الرواية- في تكثيف الصورة المروعة لعلاقة الإنسان
بالحياة وسط حالة الدمار والموت الشاملة التي يواجهها "إنها قصة حب عنيفة تلك
التي يبنيها الإنسان مع الحياة، فبينما تتوسع اللذات وتكبر الشهوات، ويصبح الرجل
طفلا يرضع من أمه الدنيا كل ما لذَّ وطاب".
|
هذه العلاقة بأبعادها التراجيدية الخارقة للتصور تتأسس عبر علاقة
الكائن بالمكان الذي ستجري فيه أحداث الرواية، والذي سيكون الطريق الذي يسلكه بطل
الرواية الإشكالي، ولكن ليس بالمعنى اللوكاشي، والمعني بإيصال الصورة الحقيقية
لموت الإنسان والقيم الإنسانية وسط عالم ينهار فوق رؤوس أبنائه على مرأى من عالم
يكتفي بمتابعة فصول الجريمة بدم بارد "أنا أحاول لملمة نفسي وجسدي، وهناك عدو
محتمل يشرب الشاي بالقرب مني على مرمى حجر من صمتي، وكاميرتي تعجز عن الدوران.
للموت رائحة أيضا لا ندركها ربما أبدا، ولكننا نشعر بوجودها بعد أن تعبر ساحبة
معها أحد الذين بيننا"، هكذا تقيم الرواية عقد ميثاقها السردي مع المتلقي منذ
البداية.
وهكذا تؤسس الرواية لمعنى الموت باعتباره الفكرة المحورية لعالم السرد
الروائي فيها وليس مجرد القدر الذي يطارد البطل في تلك المغامرة الرهيبة وسط عالم،
تكون السلطة العليا فيه هي سلطة الموت القادم من كل مكان وفي كل لحظة. يتقدم ضمير
المتكلم الرواية منذ جملة الاستهلال التي ترتبط ارتباطا وثيقا بضمير المتكلم-
البطل كما ترتبط بنهاية الرواية التي تطغى فيها رائحة الموت وصوره على المشهد
الأخير فيها، بحيث تكشف عن مدى تماسك العالم الروائي الذي تقوم استراتيجية السرد
فيه على السرد التصاعدي والتعاقبي، حيث يتميز السرد بطابعه الذاتي الداخلي
التحليلي الذي يعرض فيه البطل- الراوي لما يقوم به وما يعيشه من مشاعر أو يواجهه
من أحداث ومواقف فظيعة، تتولد عنها أفكار وهواجس ومشاعر وخيالات مختلفة تعكس حالة
الموت والرعب الرهيبة التي يعيشها بعد أن فقد المكان أي مقومات للأمان أو الحماية
مع هذا الموت الذي بات يتنفسه كالهواء "ما يحدث حولي يفوق الكارثة، إنها
القيامة.
الموت يأتي من كل سماء، وينبع من كل أرض. لقد تغير الوضع تماما عند
زيارتي الأخيرة. كل شيء تغير. لم يعد يجدي قليل من الحق كما يقولون. كل رصاصة من
الأمام تتبعها مائة رصاصة من الخلف. إنها الحرب وكيف يهدأ الثأر بين طرفين، فالأرض
غرقت بالدماء من كل جانب".
عبر المشهد السردي البانورامي ثمة حكاية تقود إلى حكاية أخرى يرويها
بطل الرواية عن عمليات الاغتصاب التي يقوم بها جنود النظام للفتيات والنساء، إلى
جانب عمليات السطو المسلح والسرقة والاعتقال والتعذيب الوحشي وتقطيع الجثث التي
تكشف عن مدى بربرية سلوك جنود النظام، بعضها عاشه عن قرب وكان ضحيته أو شاهدا
عليه، وبعضها الآخر رواه له أصحاب تلك الحكايات الرهيبة.
لا هروب من الرصاص
تتنوع الحكايات في هذه الرواية كما تتنوع مصائر شخوصها وضحاياها مع
تتابع رحلة بطلها بين أحياء حلب المشتعلة، وفي الطريق إلى حماة حيث تتقاطع المصائر
والأقدار فتختفي وجوه تحت ركام الأنقاض وفي عراء الموت الزاحف، لتظهر وجوه جديدة
يلتقي بها مصادفة أهمها هو الصحفي الأجنبي نيكولاس الذي يتحول إلى رفيق طريقه
ومصيره في أحياء حلب وقلعتها التي يتمكنان من التسلل عبر سراديبها خارج المدينة
هربا من الرصاص والقذائف، ليلتقيا صدفة بأحد تجار الآثار وسماسرة الحرب الذي
يقلهما باتجاه مدينة حماة مقابل ألفي دولار. لكنه في الطريق يسلمهما لمجموعة من
المقاتلين الذين يتولون مهمة إيصالهما إلى اللطامنة. تتمكن إحدى مجموعات النظام من
اختراق منظومة اتصالهم فيوجهانهم باتجاه أحد الكمائن في الحقول المجاورة وهناك
يقتل بعض المقاتلين ويقع بعضهم الآخر مع بطل الرواية ونيكولاس في الأسر لتبدأ
رحلتهما مع الموت البطيء وفنون التعذيب الوحشي الأغرب من الخيال.
يستخدم الكاتب الذي يعتمد التقسيم التقليدي للرواية، التداخل المشهدي
الذي يعرض فيه لمشهد الاعتقال الرهيب في مطار حماة ومشهد الهرب عبر دهاليز قلعة
حلب.
يلعب القدر لعبته مع بطل الرواية أكثر من مرة، كانت المرة الأولى
عندما يتعرف إليه أحد أبناء عمومته ويقنع ضابطه المسؤول عنهم في مطار حماة بأنه لا
علاقة له بشيء، وقد جاء لزيارة أقاربه، فينجو من مصير مماثل لمصير زميله نيكولاس
وبعض الأسرى الآخرين.
لغة قاسية وعارية بقسوة وعري المشهد الإنساني الدامي والمريع الذي
ترسم صورته، وتحاول أن تقدم شهادتها عنه بكل أبعاده وحالاته وصوره الإنسانية
القاسية (في الحقيقة تتالت تلك المدن أمام ناظري في السراب بهياكل أبنائها وركام
الخنادق وبقايا القذائف والقبور التي حفرها أهلها بالعشرات انتظارا للموت).
عن جريدة "العرب" اللندنية