- غياب المراقبة في ظل تنامي فتح محلات الأكل السريعة وسط دروب العاصمة الادارية.
- ضحايا التسممات الغذائية يعانون في صمت.
- وحده المستهلك يجهل أو يتجاهل غياب المراقبة والمتدخلون يقرون بضعف المراقبة.
محمد صدقي - الربـاط
اكتظاظ، وتسارع هنا وهناك. في الجانب الأيمن للشارع محل لبيع الأكلات السريعة، وبجواره محل آخر يبيع نفس الشيء وبنفس الثمن، وفي الجهة المقابلة ثالث آخر يبيع كذلك نفس نوعية الأكلات وبذات الثمن وكأنهم اتفقوا على ذلك.
محلات لبيع "الشوارمة" و "السندوتش"، تنتشر في كل مكان كالفطر. محلات صغيرة جدا، وكراسي قليلة، موضوعة بشكل شبه عشوائي تعرقل سير المارة. وهناك من وضع على باب المحل لوحة صغيرة مكتوب عليها "رخصة" وتليها مجموعة من الأرقام.
هذه هي حالة زقاق "الجزاء" بالقرب من المدينة القديمة لمدينة الرباط، والساعة تشير إلى الواحدة زوالا.
منذ الوهلة الأولى يظهر للزبون على أن كل شيء مضبوط قانونيا، وأن صاحب المحل بارتدائه لباس الصلاة، إشارة إلى أنه "رجل صالح". هذا الأخير ينده على الزبون، ويدعوه لدخول محله وتناول وجبة عنده.

البائع لا ينسى أيا من جمل الترويج المدققة والمختارة بعنياة لاستمالة الزبون، في الوقت الذي ينسى فيه هذا الأخير التدقيق في أمور عديدة، والتي إن غفل عنها قد تعرض صحته للخطر وإن لم تكن في المدى القريب ستكون بعد مرور بضعة أشهر، أوقد تؤدي به للإصابة بمرض خفية، مثل السرطان، وأمراض أخرى، تتسبب فيها بعض المأكولات "الفارغة".
لا مجال للشك، فكل شيء في واجهة المحل، المتعدد الخدمات، والمأكولات. حيث مطبخ مصغر به "فرن" و"شواية" و"مقلات بطاطس" وثلاجة بها كل أنواع السلطات المحضرة مسبقا، واللحم المفروم، الذي لا تعرف عن مدة صلاحيته أو جودته شيء، حيث أن مزجه بالتوابل وطهيه بإضافة الـ"موطارد" أو"صلصة الطماطم" مثلا لا تستطيع تذوق الطعم الحقيقي له.
ولكن، لما الإقبال على هذه المحلات؟
إقبال كثيف للمستهلك
وعند سؤال المستهلكين عن تشبتهم بالأكلات السريعة رغم ما قد تتسبب به من أمراض، يقول محمد ذو العشرين ربيعا : "أولا الثمن في متناول الجميع، وتستطيع الحصول على طلبك في 5 دقائق، وهكذا أستطيع العودة إلى المؤسسة حيث أدرس. ولأن الرجوع إلى منزلنا يستغرق وقتا طويلا وجهدا كبيرا، ومع التوقيت المستمر الذي يحتمل من خلاله أن لا أجد أحدا في المنزل، في حالة التفكير بمأكولات "الدار"، فقد أكون مضطرا إلى تحضير الأكل بمفردي، وهذا سيستغرق نصف ساعة على الأقل، اللهم هذه المأكولات (المختصِرة)".
أما كريم (34 سنة .. موظف بالقطاع العام) فيقول : " مع التوقيت المستمر لا يمكن إلا الأكل في المطاعم لكسب الوقت، زيادة على ذلك لا يوجد مقصف حيث أشتغل. ورغم ما قد أتعرض له من إصابات من تسمم غدائي.. لا وجود لبديل".
وبالقرب من أحد "مراكز الإتصال" المتواجدة بمدينة الرباط، تشابهت الإجابات وتمركزت أغلبها على الإجابة التالية : "رغم أن المركز يوفر مقصفا وفرنا كهربائيا "ميكروأوند" و" ثلاجة " حيث يمكن إحضار أكل المنزل لتسخينه وأكله. إلا أنه لا يوجد الوقت لتحضير الغداء في المنزل، فعند عودتك إلى بيتك على الساعة التاسعة مساءا، لا تبحث إلا عن وسادتك لتنام قليلا وتستريح. لذا يتم اللجوء إلى أكل السندوتش السريع، ولا يهم التسمم، لأننا سنموت مرة واحدة في يوم من الأيام".
وبعيدا عن محلات السندويتش، وفي "حديقة نزهة حسان" بالضبط، يجلس حمزة، (25 سنة) وحيدا في إحدى الكراسي، ويتناول وجبته بتأن. وعند سؤاله أجابني بكل عفوية قائلا: "أجلس دائما وحدي، لأن كل زملائي في العمل يذهبون للأكل في المطاعم. ومحاولة مخالطتهم ساعة الغداء، ستدفعني إلى الأكل معهم كل يوم، وهذا ما سيلزمني لتوفير ميزانية إضافية. أنا لا أستطيع تدبر ثمن السندوتشات كل يوم، لذا أحضر معي بعضا من الخبز به إما المربى، أوزبدة وعسل، وقليلا من الثمر، وأشتري عصير المعلبات، إن تطلب الأمر. إلى حين عودتي إلى المنزل على الساعة السابعة مساءا".
تساؤلات ...
و يبقى السؤال مطروحا، هل هذه اللوحة الصغيرة كافية لفتح محل لبيع الأكلات السريعة؟
ما هي الوثائق اللازمة لذلك؟
هل هناك لجنة مراقبة لجودة المأكولات والقائمين على هذا الميدان؟
وكيف يتم التعامل مع حالات التسمم؟ وما هي المعايير ؟
للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها، اتجهنا أولا إلى الجماعة الحضرية للاستفسار في الأمر، وحتى نتعرف جميعا بداية على على الخطوات اللازمة التي يجب القيام بها قبل فتح أي محل لبيع الأكلات السريعة...
فتح المحلات
في مسيرة بحث لم تكن سهلة، عبر بنايات المصالح الادارية بالعاصمة، أشارت موظفة الاستقبالات إلى مكتب في الطابق الأول "أطرق الباب على اليمين وهناك ستجد من يجيبك على أسئلتك". وعند فتح الباب، كان المكتب فارغا تماما، ولا يوجد أحد، وكأنني أخطأت العنوان. "على اليمين باب أخرى داخلية، عند فتحها تجد غرفة أخرى بها أربع مكاتب كبيرة"، غير أنني لاحظت عدم وجود أحد بها، "ويوجد في الطرف الآخرمكتب خامس به موظفة بشوشة" استقبلتني بحفاوة. طرحت السؤال وقلت "إني أريد فتح محل للأكلات السريعة، ما الوثائق اللازمة؟
غياب التوثيق
اعتذرت الموظفة عن عدم وجود نسخة بها جميع الوثائق، والمعلومات الضرورية، وأعطتني قلما وورقة لكي أدون ما ستمليه علي، وسألتني إن كانت هذه أول مرة سأطلب ترخيصا لفتح المحل، فكان جوابي استنكاريا بعض الشيء. حيث أجبت قائلا "واضح أنها أول مرة. لذلك أطلب معلومات عن الأمر".
بدأت السيدة مباشرة تملي علي الوثائق المطلوبة، "أولا، طلب خطي باسم السيد رئيس المقاطعة، وثانيا، إحضار تصميم مصادق عليه من الجماعة، وثالثا، نسخة من البطاقة الوطنية وصورتان. هذا كل ما نطلبه للمصادقة على الرخصة. ولا تخف، فأمر الحصول عليها أسهل ما يكون، يجب فقط على التصميم أن يطابق الشكل الحقيقي للمحل، والمواصفات الأساسية، من بينها علوالمكان ووجود تهوية".
- أهذا كل شيء؟ ألا توجد لجنة من وزارة الصحة مثلا أودورية للمراقبة؟
أجابتني قائلة: " عند التوصل بالوثائق، تخرج لجنة من المكتب الصحي، ولجنة من مكتب التصميمات، وأخرى من الوقاية المدنية، ولكن المهم، ليس اللجنة، حيث لا صعوبة في أمرها. يجب فقط مراعاة أبسط الأشياء. والموافقة ستحصل عليها بنسبة 99%. ولا وجود للجن تراقب على طول السنة، فهذه الأخيرة لا تخرج للمعاينة إلا من حملة لأخرى، ومن رمضان لآخر، أوعند التوصل بشكاية ضد المحل".
ثم أضافت قائلة، وبكل ثقة، والبسمة تملأ محياها، "اللجنة تخرج مرة واحدة، للمصادقة على الرخصة فقط، وبعد ذلك لا توجد متابعة. ومثلا إذا صادف خروج هذه اللجنة للمعاينة في إحدى المناسبات، وإذا لا قدر الله اكتشفت أن المحل غير مرخص، هنا يتم إشعار صاحب المحل بإنذار شفوي، يشير إلى وجوب ترخيص المحل. -وحتى يطمئن قلبي- قالت مؤكدة لي في الأخير، "لا تخف، الرخصة يسهل الحصول عليها، الأهم هو التصميم..".
تجاهل ضحايا التسممات الغذائية
وبعد الخروج من مقر الجماعة الحضرية، اتصلت بالدكتور"بوعزة الخراطي"، رئيس الجمعية المغربية لحقوق المستهلك، في محاولة للنقاش حول الموضوع، والتساؤل حول حصيلة ضحايا المصابين بالتسمم الغدائي في المغرب، وعن كيفية التعامل مع هذه الحالات .. وما الدور الذي تلعبه جمعية حماية المستهلك ؟!!
يقول الخراطي : " يضع المركز المغربي لمراقبة التسمم والتسمم الغذائي تقريرا سنويا حول حصيلة الضحايا المصابين بالتسمم، ويأتي التسمم الغدائي في المركز الثالث، وهذا لا يعكس الواقع، لأنه على الرغم من شرط تقديم التقرير من قبل الطبيب المعالج لكل حالة متوصل بها، إلا أنه يتم تجاهل الآلاف من الحالات التي لا تستشير الطبيب عند الإصابة بتسمم غدائي، وتفضل شراء الأدوية من الصيدليات أو الاستعانة بطرق تقليدية وهذه إشكالية يجب التطرق لها".
مضيفا "وأما عن الجمعية المغربية لحقوق المستهلك والجمعيات داخل الاتحاد المغربي لحقوق المستهلك، فنشاطها الرئيسي يتمركز حول تثقيف المستهلك وتحسيسه بخطورة الأمر، ويتم ذلك في المدارس والكليات، من خلال إلقاء محاضرات وورش عمل، وكذا عن طريق الراديو. وفي حالة اتصال المصاب مباشرة بالجمعية، تتم العناية بالحالة ونقلها إلى مستشفى مختص. وبعدها يجري البحث عن حل المشكلة مع الطرف الثالث (صاحب المحل)".
عن مراقبة الجودة

بعيدا عن "الدكتور الخراطي"، وبما أنني لم أحصل منه على أرقام أو معطيات توضيحية عن عدد الضحايا المصابين بالتسمم الغدائي، استعنت بالمواقع الإلكترونية عبر الأنترنيت. حاولت البحث أولا على الموقع الإلكتروني لـ "المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية "، فتعجبت لمحرك البحث الذي أحالني على بعض المقالات التي ذكر فيها هذا المكتب مؤكدا عدم وجود أي موقع خاص "بالمكتب الوطني للسلامة الصحية". وكان السبب، عدم توفر الموقع باللغة العربية، وعند البحث عن "ONSSA" استطعت إيجاد الموقع باللغة الفرنسية.
في أول الأمر، لم أجد أي شيء قد يفيد المواطن العادي، وهنا تكمن خطورة التحفظ عن المعلومة، أوعدم التصريح بها، أوصعوبة البحث عليها عبر الموقع. ناهيك عن عدم توفر ترجمة باللغة العربية للمواطن الذي لا يفهم اللغة الفرنسية.
بعد بحث طويل، وبعد صبر جميل، استطعت إيجاد "بلاغ صحفي" باللغتين العربية والفرنسية، حرر في 12غشت 2013, ﻳﻘﺪم ﺣﺼﻴﻠﺔ اﻟﻤﺮاﻗﺒﺔ اﻟﺼﺤﻴﺔ ﻟﻠﻤﻨﺘﺠﺎت اﻟﻐﺬاﺋﻴﺔ الأكثر استهلاكا ﺧﻼل ﺷﻬﺮ رﻣﻀﺎن 1434. ولم أجد أي تقرير سنوي أو بلاغ آخر لشهر آخر، وكأن هذه اللجن لا تخرج إلا في رمضان، أو كأن المواطنين لا يستهلكون المواد الغذائية إلا في شهر رمضان.
أرقام في التحسيس والمراقبة
جاء في البلاغ المذكور، "على إثر هذه الحملة، أجرى المكتب الوطني للسلامة الصحية إحدى عشر ألف عملية تحسسية في مجال تخزين المواد الغدائية وشروط النظافة، وتوزيع ملصقات حول شروط السلامة الصحية الواجب احترامها".
ويوضح البلاغ ذاته، "قامت فرق المراقبة للمكتب، على مستوى السوق الوطني، بستة آلاف و179 دورية، تم خلالها مراقبة قرابة خمسون ألف نقطة بيع ومؤسسة صناعية ومطاعم جماعية. ومن خلال المراقبة قام المكتب بأخذ ألفين و856 عينة قصد تحليلها. حرر 354 محضر مخالفة، وحجز وأتلف ألفا وستة وسبعون طنا، وألفين و220 لترا من المنتجات الغذائية الغير صالحة للاستهلاك، من بينها 134 طنا من اللحوم الحمراء، وطن من اللحوم المتأتية من " الذبيحة السرية " وغيرها من المنتجات.
وعن الأسباب؟
يوضح البلاغ، أن "عدم احترام أصحاب المحلات لسلسلة التبريد، وعدم احترام شروط التخزين في درجة حرارة مناسبة، وانتهاء مدة الصلاحية، كان سببا وراء العقوبات المعلنة".
وفي نفس السياق، وجدت تقريرا لسنة 2011، لـ "المركز المغربي لمحاربة التسمم واليقظة الدوائية" يفيد أن "التسمم الغذائي يشكل 25 في المائة من مجموع حالات التسمم المسجلة بالمغرب". ويأتي في المرتبة الثالثة بعد التسمم الناجم عن لسعات العقارب التي تحتل المرتبة الأولى، والتسمم بأول أكسيد الكربون، الذي يحتل المرتبة الثانية.
بعدما تعرفنا على الوثائق الضرورية، والخطوات الأولية، لفتح محل للأكلات السريعة، في محاولة لفهم الانتشار السريع لهذه المحلات. وبعد استطلاع للرأي العام الذي كشف بعض الأسباب لتعاطي المستهلك للأكل في المطاعم الجماعية. يتأتى الاطلاع على الميدان ومعاينة الأوضاع في محاولة لاستدراج أحد أرباب المحلات لكشف بعض الحقائق.
شهادات من الميدان
عبد الصابر، صاحب محل، اشتغل في الميدان لأزيد من ثلاث سنوات يحكي: "ليس صعبا على أحد فتح محل للأكلات السريعة، المهم هو إصلاح المحل وإحضار اللوازم مثل الموقد والكراسي والطاولات. ولا تشغل نفسك في محاولة الحصول على الوثائق والرخص، حتى لا تدخل في دوامة أنت في غنى عنها، بل ويمكنك البدء وافتتاح المحل، وكذا الشروع في العمل دون رخصة، في انتظار أن تأتي اللجنة إليك بعد حوالي شهر أو أكثر، لتعلمك بوجوب أخد الرخصة من الجماعة. وهناك إمكانية أن لا تأتي اللجنة إطلاقا إذا كانت لديك علاقات وطيدة مع أحد يشتغل في المصالح المسؤولة".
واصل الرجل كشف المستور، مضيفا، "يجب أن تعرف أمرا مهما. و هو أن أكثر من 40 في المائة في مدينة الرباط وأغلبهم في الأحياء الشعبية مثل "الجزاء" أو "حي المحيط " وغيره، لا يتوفرون على رخصة. ما عدا ذلك الذي يكون دخله اليومي عشرة آلاف درهم أو أكثر، هذا الأخير يخاف من المتابعات إن علمت المصلحة المسؤولة عن هذا الدخل، لذا يقوم بتوثيق المحل والحصول على الرخصة".
وأضاف صاحبنا : "في حالة إصابة أحد الزبائن بتسمم في مطعمك، عليك فقط أن تكون سريع البديهة، وذكيا، في محاولة لتدارك الموقف مباشرة مع المستهلك وبطريقة ودية، حتى لا تصل إلى السلطات المعنية. يمكن مثلا شراء الأدوية الضرورية لإرضائه وطلب المسامحة".
أما عن لجنة مراقبة الجودة والنظافة، فقال "هي تراقب عن كثب المحلات على الدوام، وغالبا في المناسبات الدينية، والحملات، ولكن يمكن فقط "تدور معها" وستمر مرور "الكرام".
محمد صدقي - مدار 7