![]() |
أيمن الجندي. |
مازال الحديث موصولاً عن موضة الإلحاد وأسبابها الظاهرة والخفية. كم مرة كتبت أن خمسة وتسعين فى المئة من الإسلام يكمن فى (التوحيد).
ولا أجد حرجاً حين أقول إن السور المكية تزلزلنى أكثر من السور المَدنية، وكلٌ من عند الله. القرآن المكى بليغ، مرهف، حاد، بديع، مدهش، مذهل، يحيّر الألباب والعقول. وكلما جلست فى رحاب الكعبة المشرّفة أتراجع فى الزمن إلى الوراء، وتختفى كل مظاهر المدنية الحديثة. يتلاشى الرخام الأبيض والأنوار الساطعة وصدى الميكروفونات، ولا أرى على مد البصر إلا الرمال الصفراء الساخنة والجبال الشمّ العالية، والكعبة السوداء العتيقة المسربلة بالسواد والوقار. وأكاد أشاهد ملأ قريش يطوفون حول الكعبة، يغدون ويروحون ممتطين سنام جمالهم، يتبايعون فى الأسواق، ويسير العبيد السود، وفى عيونهم نظرات التمرد المكتومة.
وأرى أيضاً رجلاً فى الأربعينيات من عمره، وضىء الوجه، وكأنه مُضىءٌ فى ذاته، أبيض الثياب، يفوح العطر من حواليه برغم أنه يطوى جنبه على الجوع النبيل. أشاهده وهو يرنو إلى الملأ فى حزن، ثم يبدأ بتلاوة قرآنه. القرآن المكى الذى لم أجد لرهافته وبلاغته وحزنه نظيراً فى كل ما قرأت. قرآن يحدثنا عن الخالق جلّ جلاله، يُعظّمه ويوقره ويسبحه، يعرّفنا به، عقيدة ليس هناك أبسط منها ولا أجمل منها. يقبلها العقل كبدهية ويفهمها الأمىّ البسيط كما يفهمها الفيلسوف: إله جمع كل صفات الكمال والجمال والقوة والإرادة، بيده كل شىء. وفى الناحية الأخرى يوجد خلقه الذين هم عبيده، خاضعين لمشيئته، عرفوا ذلك أو لم يعرفوا. ثم هم يُردّون بعد الموت إلى خالقهم، ليقدموا كشف الحساب، فيقضى بما يشاء لمن يشاء، يعذب من يشاء ويرحم من يشاء. كونه وخلقه وناره وجنته! وما يملك البشر، بمن فيهم النبى محمد، إلا التضرع والتذلل والتوسل وحسن الطلب، عسى أن يرقّ لهم خالقهم العظيم.
عقيدة غاية فى البساطة، وآية فى الجمال. لا وساطة بين العبد وخالقه. محمد يصرخ فى القوم: «يا عمتى صفية. يا ابنتى فاطمة. اعملا فإننى لا أغنى عنكما من الله شيئا». عبد برتبة رسول، مُبلّغ للرسالة لا أكثر. كما يُرسل الملك رسولاً إلى رعيته ليخبرهم بما يشاء هو، لا ما يشاء الرسول.
وقتها لم يكن هناك تشريع. وإنما العقيدة فقط. فتوالت سور القرآن المكىّ تعزف على أوتار بليغة، عسى أن ترق قلوب البشر ويفروا إلى الله.
هذه هى جوهرة الإسلام المغفول عنها. الإسلام الذى تحول على يد المهووسين من أتباعه إلى قسوة وتعالٍ على الخلق ولحية ونقاب.
الناس بفطرتهم يبحثون عن الله. أذكر أننى كنت فى معبد الأقصر منذ عشرة أعوام، وشاهدت فى ركن منعزل مجموعة من السياح الغربيين جالسين فى شبه دائرة، مندمجين فى صلاة ما. وقفت أتأملهم فى رهبة، كانت وجوههم تفيض بالخشوع والتأثر، وبرغم ملابس النساء القصيرة فقد كن مندمجات فى صوفية نادرة تمتزج بالكون. صورة فيها من الخشوع ما لا أدركه أنا فى صلاتى، وفيها من عرى الجسد ما لم أستطع هضمه. لكننى كنتُ أعرف أنهم صادقون.1515
الطرق إلى الله بعدد أنفاس خلقه. من أنا حتى أحكم على بشر! ولم أستطع أن أمنع نفسى، وأنا أرمقهم فى رهبة. إننا نحن المسلمين نملك جوهرة، اسمها التوحيد الصافى، ولكننا نصرّ، لأسباب مجهولة، أن نخفيها فى الطين.
أيمن الجندي