الأحد، 17 نوفمبر 2013 - 21:26

حسن حنفي.
البحر الأبيض المتوسط بحيرة عربية أوروبية واحدة. العرب فى الجنوب والشرق، والأوروبيون فى الشمال والغرب. فهناك ما يقرب من ثلاثة ملايين عربى فى أوروبا موزعون فى كل مكان، فى الجنوب: إسبانيا وإيطاليا واليونان، وفى الشمال: هولندا والبلاد الإسكندنافية، وشرقا فى أوروبا الشرقية، وغربا فى فرنسا، وفى الوسط فى ألمانيا. فامتلأت أوروبا بالعرب، ويضم العرب ليس فقط المسلمين، بل أيضا الأقباط وغير العرب من المسلمين، من الماليزيين والإندونيسيين والباكستانيين، وتتوقف الهجرة على كثافة سكان الجنوب مثل المغرب الأقصى، وقلة السكان فى البلد المهاجر إليه مثل البلاد الإسكندنافية. وبين أوروبا والعرب تقرب المسافة، التى قد تصل إلى عدة كيلومترات كما هو الحال فى المسافة بين جنوب إيطاليا وشمال تونس. فالبحر الأبيض المتوسط بحيرة عربية أوروبية، كما أن البحر الأحمر بحيرة عربية، وتربط جزر البحر الأبيض المتوسط مثل سردينيا وصقلية وقبرص بين شاطئيه.
والهجرات العربية على عدة مستويات: الأول، هجرة العمالة غير المتخصصة، التى تريد عمل أى شىء كى تعيش، وكى تقتصد الباقى لإرساله إلى موطنها الأصلى لأسرتها، لأنها فى الغالب ما تهاجر بمفردها مؤقتا، حتى يستتب لها الأمر، والثانى، هجرة الجامعيين، الذين درسوا فى بلادهم، ولم يجدوا عملا مناسبا لهم، وهى طبقة الكتبة والإداريين، ومن يعملون على الحاسبات الآلية وشبكات الاتصال، والثالث، حملة الدكتوراه والهجرة المؤهلة للعمل فى الجامعات، أو فى المعامل ومراكز البحث، وهم الذين يساهمون فى بناء المجتمع الأجنبى، ويعملون على تنمية اقتصاده، وطبقا للإحصاءات فحوالى ثلث العمالة المؤهلة فى أوروبا وفى الولايات المتحدة الأمريكية من العمالة المهاجرة، التى يقوم عليها المجتمع الأجنبى، الذى يقدر أحيانا الكفاءة قبل الجنسية، والخبرة قبل الطائفية والمذهبية، وقد حصل بعضهم على جوائز نوبل فى العلوم الطبيعية مثل أحمد زويل، وفى الآداب مثل نجيب محفوظ، وفى السلام مثل البرادعى.
ونظرا لقرب المسافة بين شاطئيه، الشمال والجنوب، كانت العلاقة بينهما إما عداوة أو ثقافة. فإذا قوى الشاطئ الشمالى كما هو الحال فى العصر اليونانى الرومانى والعصر الحديث انتشر على الجنوبى، وهذا هو الاحتلال القديم، وإذا قوى فى العصور الحديثة أعاد انتشاره على الساحل الجنوبى، وهذا هو الاحتلال الحديث، وإذا قوى الساحل الجنوبى العربى انتشر فوق الساحل الجنوبى الأوروبى كما حدث أثناء الفتح العربى، الذى وصل إلى الأندلس وصقلية ومالطا وقبرص، وإذا قويت ثقافة الساحل الجنوبى الغربى انتشرت فوق الساحل الشمالى الأفريقى العربى كما حدث أثناء انتشار الثقافة اليونانية واللاتينية فى العصر القديم، وهو ما يسمى الهلينستية، وإذا قويت فى العصر الحديث بعد اليقظة العربية منذ الطهطاوى وخير الدين التونسى فاضت على الساحل العربى ترجمة وتأليفا، والأمر كذلك حتى الآن، وإذا قوى الساحل العربى ثقافة وعلماً وفناً فاض على الساحل الأوروبى كما حدث فى العصر الوسيط. فالساحل الأوروبى استقبل الثقافة العربية مرة، ونحن العرب استقبلنا الثقافة الأوروبية مرتين. فمتى تستطيع الثقافة العربية أن تنتشر مرة ثانية إلى الشمال، إلى الساحل الأوروبى حتى يحدث تبادل بين الثقافتين دون أن يكون الشمال هو المركز، والجنوب هو المحيط، وأن تعطى كل ثقافة وتأخذ، تترجم وتبدع، وقد كانت الأندلس على مدى ستة قرون ملتقى للثقافات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، وظهر فيها العصر الذهبى لليهودية فى اللغة والعقيدة والفلسفة والفقه والتفسير والحديث، وكان اليهود فى حالة الخصام بينهم يذهبون إلى المحاكم الإسلامية لعدالتها، ولا تزال مدنها وآثارها موجودة: طليطلة وسورها القديم، وغرناطة وقصر الحمراء، وإشبيلية وخيرالدا، وقرطبة ومسجدها الكبير ومعبدها اليهودى وسورها، والآن تبرز مأساة فلسطين فى شرق المتوسط، طرد شعب وإحلال شعب آخر محله، وقد كان غرب المتوسط، الأندلس، العصر الذهبى لليهود فى العصر الإسلامى، حيث نشأت علوم الفقه والكلام والفلسفة والتفسير، مقارنة باليهود فى أوروبا واضطهادهم عرقيا ودينيا لدرجة المحرقة على أيدى النازية فى ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية فى أوسشفيتز Auschwitz، وداخاو Dachau.
العرب وأوروبا جغرافيا واحدة، وتاريخ واحد، وثقافة واحدة، لدرجة صياغة بعض المفكرين العرب مفهوم ثقافة المتوسط، وإن كان هدفه التقارب بين العرب وأوروبا، بين المحيط والمركز أى كيف يكون العرب مثل أوروبا ثقافة وسلوكاً، وأن تكون أوروبا بين العرب أكثر مما يكون العرب فى أوروبا. فأوروبا هى النموذج الذى يُحتذى، والأوروبيون هم الذين أثبتوا جدارة فى العصر الحديث فى العلوم والآداب والفنون، ويتم تبادل الخبرات بين الضفتين، وتنتهى صورة الأوروبى القادم نحو الساحل المتوسط للاحتلال أو الاستغلال، وصورة العربى المهاجر إلى الشمال، وقد يكون تاجر مخدرات، مهربا، هاربا من العدالة عابرا المتوسط فى قارب، الهالك فيه أكثر من الناجى، وتنتهى القصة التى تروى فى جنوب المتوسط عن خطورة التغريب فى الثقافة العربية، مما يؤدى إلى الاغتراب عن ثقافتهم. كما ينتهى الاستشراق أى رؤية الأوروبى للجنوب بكل ما فيها من استعلاء وإسقاط، ويتعامل مع الجنوب كطرف مساو له وليس كذات صاحبة رؤية على موضوع، وبالتالى يعم السلام بين الشاطئين، وإذا كان السلام قد عم بين ساحل أوروبا الغربى وساحل أمريكا الشرقى وبينهما المحيط الأطلنطى، فالأقرب أن يعم السلام بين شواطئ المتوسط شمالا وجنوبا، وشرقا وغربا.
وتبقى قضية فلسطين مسؤولية كل شعوب المتوسط حتى يعود المتوسط بحيرة وئام وسلام، ويصبح ميزان ثقل بين الشرق والغرب، بين روسا وأمريكا، وأيضا بين الشمال والجنوب، وهو الدور نفسه الذى لعبه قديما ساعة الفتح عندما طوى العرب إيران تحت جناحهم الشرقى وأوروبا الجنوبية تحت جناحهم الغربى. فالعرب لهم أهمية جغرافية وتاريخية وثقافية وعلمية وفنية وأدبية بحيث لا يمكنهم أن يكونوا طرفا لمركز، بل هم مركز لأطراف. إذن العرب فى أوروبا ظاهرة تاريخية قد تعطى المتوسط مساراً جديداً بدلاً من العولمة الشاملة.
حسن حنفي
.