![]() |
حسن حنفي. |
فى الحياة الإنسانية لا يوجد استنساخ إنسان لآخر. فكل إنسان فرد. وقد كتب الفيلسوف الدنماركى كيركجارد على قبره «هنا يرقد الفرد». ويوم القيامة كل إنسان يُبعث فرداً. «وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً». والمسؤولية والحساب للفرد.
وهناك ما يسمى الخيال. فكل إنسان يتمنى أن يكون آخر من صنع خياله، أو بطلا يتمناه، زعيما أو فنانا أو بطلا رياضيا أو عالما. وتتكرر الصور أمامه كى يتمثل إحداها. ويقرأ عنهم فى كتب التاريخ كى يستحضرهم أمامه أحياء. ومع ذلك لا يكفى الإعلام لصنع البطل، بل قد يضره إذا ما عرف المواطن أن الإعلام إنما هو كذب ونفاق وترويج لسلطة باع نفسه لها. ولا تكفى الصورة المرئية أو المسموعة أو المتخيلة لخلق صورة من أصل. ولا تكفى الأمنيات التى تساهم فى خلق الدوافع على الصورة. إذ يستحيل بعد ذلك التحول من عالم الأمانى إلى الواقع، مما ينبغى أن يكون إلى ما هو كائن. إنما الصورة تصنعها الأفعال. وتنشأ من الواقع. والأفعال هى الأصل. والمتخيل هو الصورة.
فى ثورة 1952 استطاع عبدالناصر تصفية فرقائه كبيرا وصغيرا. وأقام محاكم الثورة لأنصار الحكم السابق. وأصدر قانون الإصلاح الزراعى فى نفس العام الذى هز بنية الريف المصرى ونفسية الفلاح، وقضى على الإقطاع الزراعى. وحُلت الأحزاب عام 1953. ولما حدثت محاولة الاغتيال عام 1954 حُلت الجماعة. ودخل قادتها السجن. واستشهد بعض قادتها. وكان ناصر وقتئذ ممثلا للاستبداد. تثور ضده الأحزاب والجماعة. ثم وقع تأميم قناة السويس عام 1956 فتحول ناصر إلى بطل قومى، ومن رمز الاستبداد إلى رمز التحرر ليس فى مصر وحدها بل فى العالم الثالث، وخطابه «سنقاتل، سنقاتل» يرن فى الآذان. ووزع السلاح على الشعب وأخرج المعتقلين السياسيين وأعطاهم السلاح للمقاومة فى بورسعيد. ثم أعادوا السلاح ودخلوا السجون من جديد بعد انسحاب قوات العدوان الثلاثى. وكانت الفرصة مواتية لتمصير الشركات الأجنبية عام 1957.
ثم حدث زلزال الثورات العربية بقيادة الضباط الأحرار. وعم تيار الوحدة العربية ابتداء من الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا 1958-1961. ووقعت الثورة العربية فى العراق 1958. ثم صدرت قوانين يوليو الاشتراكية 1962-1963. وقامت ثورة اليمن وتدعيم ناصر لها بالجيش والسلاح. وبعد هزيمة 1967 انتفض الشعب المصرى ضد استقالته وأجبره على الاستمرار فى الحكم. وبدأت حرب الاستنزاف 1968-1969 حتى توفى وهو يصالح النظام الأردنى مع الثورة الفلسطينية اللذين اقتتلا بالسلاح فى 1970. وخرجت جنازته المهيبة محمولا على الأعناق من الملايين. هكذا صُنع الأصل الذى ظل يبتعد شيئا فشيئا على مر الزمن انقلابا على مدى أربعة عقود، وإحياء منذ ثورة يناير 2011.
وظل مكان الأصل شاغرا. ولم يظهر بطل على مدى سنتين ونصف إلا بعد 30 يونيو يحاول ملأه. ولم يستطع الإعلام ملأه أو صنعه فلا يصنع الصورة إلا أحداث جديدة بحيث تصبح هى الأصل. فما هى الأحداث التى يمكن أن تخلق بطلا جديدا دون ما حاجة إلى صورة فارغة تملؤها هذه الأحداث؟ على الأقل هناك ستة:
1- الائتلاف الوطنى وتحقيق الوحدة الوطنية دون دخول فى حوار عقيم حول الشرعية الصورية، شرعية الصندوق، والشرعية المادية، شرعية إرادة الشعب. فالبطل هو بطل لكل المصريين. وتأميم قناة السويس لم يكن من فريق ضد فريق لصالح فريق. وخالد بن الوليد كان قائدا لجيوش المسلمين وقَبِلَ أن يكون جنديا بعد أن أقاله عمر خوفا من افتتان المسلمين به. التحدى هو الحوار الوطنى القادر على تحقيق الوحدة الوطنية وإنقاذ الأمة من الدماء التى تسيل.
2- تحقيق الأمن فى الشارع المصرى ضد العصابات والكمائن وقطاع الطرق، وتحقيق الأمن فى سيناء على الحدود وعلى السواحل بدمج شبه الجزيرة فى مشاريع الوادى، وحماية أمن غزة وأهلها دون ما خصومة أو تنازل عن القضية الفلسطينية.
3- نظام المرور وكيفية تخفيف معاناة الجمهور من هذه الفوضى فى السير فى الشوارع والتضحية بأرواح المواطنين. ويمكن البداية بحملة بشرية بجوار علامات المرور حتى يتعود الناس على اتباع العلامات وحدها. ويمكن وضع كاميرات لتصور المخالفين. ويمكن بساعات إضافية لعساكر المرور إحكام مزيد من الضبط والربط فى حركة الشارع حتى يتعود الناس أن هناك نظاما فى الطريق يتبع نظام الكون. وقد استطاع أحد وزراء الداخلية السابقين ضبط حركة الشارع حتى ظل فى الذاكرة لا يُنسى.
4- تنظيف شوارع القاهرة من الباعة الجائلين الذين قاموا بسد شوارعها وأركانها وميادينها وبأيديهم الأسلحة البيضاء ضد من يقترب منهم، حتى من المارة أو من العربات صاحبة الحق فى السير والعبور. فهى محال مجانية وبضائع أجنبية بلا ضرائب، والشعب فى حاجة إلى البضائع الرخيصة. وبالتالى تصبح الدولة هى المعادية لمصالح الناس. ولا تستطيع الدولة أن تفعل شيئا بعد أن أهملت رعاية مصالح الناس. وما أسهل إخراج هؤلاء الباعة الجائلين فى أسواق شعبية خارج المدينة أو بدلا من المناطق العشوائية.
5- إطلاق مشروع قومى للنظافة بعد أن ظل يُضرب المثل بالقاهرة فى قذارتها، واستدعاء شركات أجنبية متخصصة فى النظافة. والأطنان تتراكم كل يوم. ويتحدث المحافظون عن همومهم فى تنظيف مدنهم. ويمكن إشراك المواطنين فيه كما اشترك المواطنون أنفسهم فى تأمين أحيائهم أثناء الثورة. ويقوم المواطنون بأنفسهم بتصنيف مخرجات منازلهم بين الورق والزجاج والصفائح وأوراق وفروع الأشجار.
5- حماية حدود مصر من الخارج، ورعاية وحدة دول الجوار، السودان والصومال فى الجنوب، وسوريا والعراق وتركيا فى الشمال، وليبيا فى الغرب، وتكوين تجمع إقليمى مصرى تركى إيرانى فى اقتصاد موحد وسياسة متآلفة. وتمتد سياسة المصالح الإقليمية إلى ماليزيا وإندونيسيا. والإسلام الثقافى رابط بيننا. وكما يمتد إلى اليابان والصين وسنغافورة والهند. فالشرق هو امتداد طبيعى لمصر، كما تستثمر مصر حضورها فى أواسط آسيا حتى الصين.
6- إحياء الوحدة الأفريقية وتحريك دور مصر فى أفريقيا، وقد كانت من أوائل المؤسسين لمنظمة الوحدة الأفريقية، وحل مشكلة سد النهضة بين مصر والحبشة والسودان، ومشاكل الحدود بين كل دولتين متجاورتين، وتبديد الخوف من حركات الإحياء الإسلامى، ومد ذراع الوطن حتى أمريكا اللاتينية، ومعرفة كيف نهضت البرازيل واستقلت عن الولايات المتحدة بالرغم من القرب الجغرافى.
وأفضل نموذج هو الذى تصنعه الذات لنفسها حتى لو وجد البطل فى الماضى والفراغ فى الحاضر. فالتاريخ مملوء بالإبداعات التى تتنافى مع التقليد.
حسن حنفي